تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 379 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 379

379 : تفسير الصفحة رقم 379 من القرآن الكريم

** فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنّي وَجَدتّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشّمْسِ مِن دُونِ اللّهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاّ يَسْجُدُواْ للّهِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
يقول تعالى: {فمكث} الهدهد {غير بعيد} أي غاب زماناً يسيراً, ثم جاء فقال لسليمان: {أحطت بما لم تحط به} أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك {وجئتك من سبأ بنبأ يقين} أي بخبر صدق حق يقين, وسبأ هم حمير وهم ملوك اليمن, ثم قال: {إني وجدت امرأة تملكهم} قال الحسن البصري: وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ, وقال قتادة: كانت أمها جنية, وكان مؤخر قدميها مثل حافر الدابة من بيت مملكة, وقال زهير بن محمد: هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان, وأمها فارعة الجنية, وقال ابن جريج: بلقيس بنت ذي شرخ وأمها بلتعة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا مسدد, حدثنا سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عباس قال: كان مع صاحبة سليمان ألف قيل, تحت كل قيل مائة ألف مقاتل, وقال الأعمش: عن مجاهد كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {إني وجدت امرأة تملكهم} كانت من بيت مملكة, وكان أولو مشورتها ثلثمائة واثني عشر رجلاً, كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل, وكانت بأرض يقال لها مأرب على ثلاثة أميال من صنعاء, وهذا القول هو أقرب على أنه كثير على مملكة اليمن, والله أعلم.
وقوله: {وأوتيت من كل شيء} أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن {ولها عرش عظيم} يعني سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللاَلىء. قال زهير بن محمد: كان من ذهب وصفحاته مرمولة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعاً, وعرضه أربعون ذراعاً, وقال محمد بن إسحاق: كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ, وكان إنما يخدمها النساء, ولها ستمائة امرأة تلي الخدمة, قال علماء التاريخ: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم, وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه, قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة ,وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحاً ومساء, ولهذا قال: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} أي عن طريق الحق {فهم لا يهتدون}.
وقوله: {ألا يسجدوا لله} معناه {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله} أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من الكواكب وغيرها, كما قال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقرأ بعض القراء {ألا يا اسجدوا لله} جعلها ألا الإستفتاحية, ويا للنداء, وحذف المنادى تقديره عنده ألا يا قوم اسجدوا لله.
وقوله: {الذي يخرج الخبء في السموات والأرض} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض, وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد, وقال سعيد بن المسيب: الخبء الماء, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: خبء السموات والأرض ما جعل فيهما من الأرزاق, المطر من السماء والنبات من الأرض. وهذا مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها.
وقوله: {ويعلم ما تخفون وما تعلنون} أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال, وهذا كقوله تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} وقوله: {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} أي هو المدعو وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم, الذي ليس في المخلوقات أعظم منه. ولما كان الهدهد داعياً إلى الخير, وعبادة الله وحده والسجود له نهي عن قتله, كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد, وإسناده صحيح.

** قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بّكِتَابِي هَـَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمّ تَوَلّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلاُ إِنّيَ أُلْقِيَ إِلَيّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ * أَلاّ تَعْلُواْ عَلَيّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
يقول تعالى مخبراً عن قيل سليمان للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} أي صدقت في إخبارك هذا {أم كنت من الكاذبين} في مقالتك لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك ؟ {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون} وذلك أن سليمان عليه السلام كتب كتاباً إلى بلقيس وقومها. وأعطاه ذلك الهدهد فحمله, قيل في جناحه كما هي عادة الطير, وقيل بمنقاره, وجاء إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها, ثم تولى ناحية أدباً ورياسة, فتحيرت مما رأت وهالها ذلك, ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ففتحت ختمه وقرأته, فإذا فيه {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها, ثم قالت لهم {يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم} تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره كون طائر أتى به فألقاه إليها, ثم تولى عنها أدباً, وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك, ولا سبيل لهم إلى ذلك, ثم قرأته عليهم {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} فعرفوا أنه من نبي الله سليمان عليه السلام, وأنه لا قبل لهم به, وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة, فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء: لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام. وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً في تفسيره حيث قال: حدثنا أبي, حدثنا هارون بن الفضل أبو يعلى الخياط. حدثنا أبو يوسف عن سلمة بن صالح عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود» قلت: يا نبي الله أي آية ؟ قال «سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد» قال: فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه, فقلت نسي ثم التفت إلي وقال: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم» هذا حديث غريب, وإسناده ضعيف. وقال ميمون بن مهران: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت هذه الاَية. فكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} وقوله: {أن لا تعلوا عليّ} قال قتادة: يقول لا تجبروا علي {وأتوني مسلمين} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي وأتوني مسلمين. قال ابن عباس: موحدين, وقال غيره: مخلصين, وقال سفيان بن عيينة: طائعين.

** قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَفْتُونِي فِيَ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتّىَ تَشْهَدُونِ * قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوَاْ أَعِزّةَ أَهْلِهَآ أَذِلّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
لما قرأت عليهم كتاب سليمان, استشارتهم في أمرها وما قد نزل بها, ولهذا قالت {يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون} أي حتى تحضرون وتشيرون {قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد} أي منوا إليها بعددهم وعددهم وقوتهم, ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا: {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} أي نحن ليس لنا عاقة ولا بنا بأس إن شئت أن تقصديه وتحاربيه, فما لنا عاقة عنه. وبعد هذا فالأمر إليك مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه. قال الحسن البصري رحمه الله: فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها, فلما قالوا لها ما قالوا, كانت هي أحزم رأياً منهم وأعلم بأمر سليمان, وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير. وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمراً عجيباً بديعاً, فقالت لهم: إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ويخلص إلي وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا. ولهذا قالت {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوه} قال ابن عباس: أي إذا دخلوا بلداً عنوة أفسدوه أي خربوه {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو بالأسر. قال ابن عباس: قالت بلقيس {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} قال الرب عز وجل: {وكذلك يفعلون} ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة والمخادعة والمصانعة, فقالت {وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون} أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك, فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا, أو يضرب علينا خراجاً نحمله إليه في كل عام ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة رحمه الله: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها, علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس. وقال ابن عباس وغير واحد: قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه, وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.